مكوّم في الزاوية لا حوله له ولا قوة, والمطر يقتحم بيته دون استئذان… مقطوعة هي الكهرباء في القطاع وأصوات المدافع ترتعد في السماء ، وهو كالآهة ، خروجها زيادة في القهر وكتمانها انفجار…
لا يزال صامتاً يرتجف من البرد ، أنفه المتجمّد كاد ينكسر ، دسّ وجهه بالغطاء - اعتذر ، معجزة في بيته وجود الغطاء-
والظلمة حالكة ، الظلمة للبؤساء شرّ مطلق فصدر أمه مشغول بأترابه الاموات .. قمة القهر أن تجتمع الظلمة بالوحدة لتخلق كابوسا واقعيا في حياة طفل ذاق العذاب ألوان…
أراه مترقباً من زاويته السوداء ، مستمعا لصرير الباب ، لخطوات الأقدام ، لنبرات الخوف والجوع … كوّم نفسه اكثر ، ضغط على جسده ، فتح وعيه للحياة…
خائف .. حتما خائف وان كانت الطفولة لفظة غبية لأمثاله، بعيدة لا تمسّه بشيء ، رفع صوته وراح يدندن ، يقول أي شيء كي يكسر الوحشة ، صبّر نفسه ببراءة : من تحت السرير يخرج الوحش المرعب ليأكل الأطفال وما من سرير هنا يحمي من الوحش المرعب … انا بامان .. وصرير الباب المفتوح أصلاً لن يخيفني ، ان دخل الوحش لن يجد ما يأكله ، حتى انا لا أشبه الاطفال.
زاد خوفه تدريجيا ، بعد ان لاح الموت رائحة نتنة في الأجواء ، بردٌ وجوع ودمار ، حقه الطبيعي ان يخاف ، بكى .. رغما عنه ، فأفلام الرعب الحقيقية تختلف عن أفلام التلفاز.
علا بكاؤه وعلت معه أصوات الجموع ، انشحن المكان بالغضب ، بالعويل والبكاء .. سمعهم يناشدون العرب ويشتمون العرب ،استهجن من كثرة الأسماء ، فذا يسبّ فتح وذاك يلعن حماس، رفع وجهه للسماء، نظر طويلا ،ربما تساءل عن معنى الحياة؟ عن عدالتها؟ عن الظلم والحرب؟ تساءل عن حقّه في الطفولة ؟ عن العيش بعيدا عن الاحتلال…
طأطأ راسه للأرض ، نظر لاخوته.. رآهم بملامحهم الجائعة وشفاههم اليابسة كالأشباح ، أورثتهم الصدمات مسؤولية وصمت ، كلّ منهم يخرج مخزون عمره من الصبر كي لا يكون أول من ينطق (أنا جائع) ،(أريد شربة ماء)،(أشعر بالبرد)،(أحتاج لدواء) شعر بالسخط ، لكنه لم يشتم احدا، لم يناشد العرب ..
هو لا يعلم حتى من هم العرب، سمع سابقا أنهم قوم ان مات الفلسطينيّ يبكون وأكثر من ذلك لا يقدمون..قلب شفتيه ، ردد بصوت عال:لا أريد ان يبكي لموتي العرب.
اعاد رفع وجهه للسماء ، نظر نظرته الأولى ، تمتم : ربي لا يليق بي هذا المكان ولا أريد شفقة من أيّ كان .. ربي أشكو اليك حالنا .. أشكو اليك قسوة الأيام .. رحمتك ملجئي الوحيد … احتاج لرحمتك يا الله